Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 203 : الفصل 42 في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
الفصل الثاني و الأربعون في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس. و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر. و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية. التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية. و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها. و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم. و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط. و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
فلا توغلن إذا ما سبحت ///// فإن السلامة في الساحل

فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره. و فوق كل ذي علم عليم. و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني. و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.