Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 169 : الفصل التاسع في أصول الفقه و ما يتعلق به من الجدل و الخلافيات
الفصل التاسع في أصول الفقه و ما يتعلق به من الجدل و الخلافيات إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية و أجلها قدراً و أكثرها فائدة و هو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام و التآليف. و أصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له. فعلى عهد النبي صلى الله عليه و سلم كانت الأحكام تتلقى منه بما يوحى إليه من القرآن و بينه بقوله و فعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل و لا إلى نظر و قياس. و من بعده صلوات الله و سلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي و انحفظ القرآن بالتواتر. و أما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولاً أو فعلاً بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه. و تعينت دلالة الشرع في الكتاب و السنة بهذا الإعتبار ثم ينزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. و لا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات. ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة و السلف بالكتاب و السنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما. و يناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم و تسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإن كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله و سلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت و ألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق. تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد و صار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه. و هو القياس و هو رابع الأدلة و اتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة و إن خالف بعضهم في الإجماع و القياس إلا أنه شذوذ في و ألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها. لضعف مداركها و شذوذ القول فيها. فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة. فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه و التواتر في نقله. فلم يبق فيه مجال للاحتمال و أما السنة و ما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه. معتضداً بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله و سلمه عليه من إنفاذ الكتب و الرسل إلى النواحي بالأحكام و الشرائع آمراً و ناهياً. و أما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأمة و أما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه أصول الأدلة ثم إن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر في طرق النقل و عدالة الناقلين لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل بالخير. و هذه أيضاً من قواعد الفن. و يلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين و طلب المتقدم منهما معرفة الناسخ و المنسوخ و هي من فصوله أيضاً و أبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ و ذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة و مركبة. و القوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو و التصريف و البيان و حين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوماً و لا قوانين و لم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنها جبلة و ملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح و مقاييس مستنبطة صحيحة و صارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام و هي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام و هو الفقه. و لا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة و بها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع و جهابذة العلم من ذلك و جعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياساً و المشترك لا يراد به معناه معاً و الواو لا تقتضي الترتيب و العام إذا أخرجت أفراد الخاص منة هل يبقى حجة فيما عداها و الأمر للوجوب أو الندب و للفور أو التراخي و النهي يقتضي الفساد أو الصحة و المطلق هل يحمل على المقيد و النص على العلة كاف في التعدد أم لا و أمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. و لكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن لأن فيه تحقيق الأصل و الفرع فيما يقاس و يماثل من الأحكام و ينفتح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلها قواعد لهذا الفن. و اعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة و كان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. و أما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً فمنهم أخذ معظمها. و أما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة و خبرتهم بهم. فلما انقرض السلف و ذهب الصدر الأول و انقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل احتاج الفقهاء و المجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين و القواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه. و كان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي و البيان و الخبر و النسخ و حكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه و حققوا تلك القواعد و أوسعوا القول فيها. و كتب المتكلمون أيضا كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه و أليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها و الشواهد و بناء المسائل فيها على النكت الفقهية. و المتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه و يميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم و مقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية و التقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. و جاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم و تمم الأبحاث و الشروط التي يحتاج إليها فيه و كملت صناعة أصول الفقه بكماله و تهذبت مسائله وتمهدت قواعده و عني الناس بطريقة المتكلمين فيه. و كان من أحسن ما كتب فيه التكلمون كتابه البرهان لأمام الحرمين و المستصفى للغزالي و هما من الأشعرية و كتاب العهد لعبد الجبار و شرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة. و كانت الأربعة قواعد هذا الفن و أركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من التكلمين المتأخرين و هما الإمام فخز الدين بن الخطيب في كتاب المحصول و سيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. و اختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق و الحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج و الآمدي مولع بتحقيق المذاهب و تفريع المسائل. و أما كتاب المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل و تاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل و اقتطف شهاب الدين القرافي منهما فقدمات و قواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. و كذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. و عني المبتدئون يهذين الكتابين و شرحهما كثير من الناس. و أما كتاب الإحكام للآمدي و هو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصة أبو عمر بن الحاجب في كتابي المعروف بالمختصر الكبير. ثم أختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم و عني أهل المشرق و المغرب به و بمطالعته و شرحه و حصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات. و أما طريقة الخنفية فكتبوا فيها كثيرا و كان من أحسن كتابة فيها. للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي و أحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم و هو مستوعب و جاء ابن الساعاتي من فقهاء الخنفية فجمع بين كتاب الإحكام و كتاب البزدوني في الطريقتين و سمي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع و أبدعها و أئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة و بحثا. و أولع كثير من علماء العجم بشرحه. و الحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفن و تعيين موضوعاته و تعديد التأليف المشهورة لهذا العهد فيه. و الله ينفعنا بالعلم و يجعلنا من أهله بمنه و كرمه إنه على كل شيء قدير.

و أما الخلافات فاعلم أن هذا الفقة المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين ياختلاف مداركهم و أنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه. و اتسع ذلك في الملة اتساعا غظيما و كان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار و كانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم و منعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته و تشعب العلوم التي هي موادة باتصال الزمان و افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فاقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة و أجري الخلاف بين المتمسكين بها و الآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية و الأصول الفقهية. و جرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة و طرائق قويمة يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده و تمسك به و أجريت في مسائل الشريعة كلها و في كل باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشافعي و مالك و أبو حنيفة يوافق أحدهما و تارة بين مالك و أبي حنيفة و الشافعي يوافق أحدهما و تارة بين الشافعي و أبي حنيفة و مالك يوافق أحدهما و كان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة و مثارات اختلافهم و مواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. و لابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط و صاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته. و هو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة و أدلتهم و مران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه. وتآليف الحنفية و الشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر و البحث. و أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم و ليسوا بأهل نظر و أ يضا فأكثرهم أهل الغرب و هم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. و للغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ و لأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق. و لأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة و لابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة و قد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجا، في كل مسألة ما ينبني عليها من الخلافيات.

و أما الجدال و هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية و غيرهم فإنة لما كان باب المناظرة في الرد و القبول متسعا و كل واحد من المتناظرين في الاستدلال و الجواب يرسل عنانة في الاحتجاج. و منة ما يكون صوابا و منة ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا و أحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد و القبول و كيف يكون حال المستدل و المجيب و حيث يسوغ له أن يكون فستدلا و كيف يكون مخصوصا فنقطعا و محل اعتراضه أو معارضته و أين يجب عليه السكوت و لخصمه الكلام و الإستدلال. و لذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود و الآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي و هدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. و هي طريقتان طريقة البزدوي و هي خاصة بالأدلة الشرعية من النص و الإجماع و الإستدلال و طريقة العميدي و هي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان و أكثره استدلال. و هو من المناحي الحسنة و المغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. و إذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي و السوفسطائي. إلا أن صور الأدلة و الأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. و هذا العميدي هو أول من كتب فيها و نسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمى يالإرشاد مختصرا و تبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي و غيره جاؤوا على أثره و سلكوا مسلكه و كثرت في الطريقة التآليف. و هي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم و التعليم في الأمصار الإسلامية. و هي مع ذلك كمالية و ليست ضرورية و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.