Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 164 : الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر و يتداولونها في الأمصار تحصيلاً و تعليماً هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، و صنف نقلي يأخذه عمن وضعه. و الأول هي العلوم الحكمية الفلسفية و هي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره و يهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها و مسائلها و أنحاء براهينها و وجوه تعليمها حتى يقفه نظره و يحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. و الثاني هي العلوم النقلية الوضعية و هي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. و لا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي. إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل و هو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. و أصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب و السنة التي هي مشروعة لنا من الله و رسوله و ما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيئوها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة و به نزل القرآن. و أصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه و على أبناء جنسه و هي مأخوذة من الكتاب و السنه بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر بالكتاب ببيان ألفاظه أولاً و هذا هو علم التفسير ثم بإسناد نقله و روايته إلى النبي صلى الله عليه و سلم الذي جاء به من عند الله و اختلاف روايات القراء في قراءته و هذا هو علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاحبها و الكلام في الرواة الناقلين لها و معرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، و هذه هي علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط و هذا هو أصول الفقه. و بعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين و هذا هو الفقه. ثم أن التكاليف منها بدني، و منها قلبي، و هو المختص بالإيمان و ما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد. و هذه هي العقائد الإيمانية في الذات و الصفات و أمور الحشر و النعيم و العذاب و القدر. و الحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام. ثم النظر في القرآن و الحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها و هي أصناف. فمنها علم اللغة و علم النحو و علم البيان و علم الآداب حسبما نتكلم عليها. و هذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية و أهلها و إن كانت كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث أنها العلوم الشرعية المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها. و أما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها. و كل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة و النظر فيها محظور. فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن. قال صلى الله عليه و سلم: “لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم و قولوا آمنا بالذي أنزل علينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد” و رأى النبي صلى الله عليه و سلم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: “ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟ و الله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي” ثم إن هذه العلوم الشرعية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه و انتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها و هذبت الاصطلاحات و رتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن و التنميق. و كان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه و أوضاع يستفاد منها التعليم. و اختص المشرق من ذلك و المغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. و قد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه و انقطاع سند العلم و التعليم كما قدمناه في الفصل قبله. و ما أدري ما فعل الله بالمشرق و الظن به نفاق العلم فيه و اتصال التعليم في العلوم و في سائر الصنائع الضرورية و الكمالية لكثرة عمرانه و الحضارة و وجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم. و الله سبحانه و تعالى هو الفعال لما يريد و بيده التوفيق و الإعانة.