Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 121 : الفصل 17 في أن الحضارة في الأمصار من قبل ا لدول و أنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها
الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل ا لدول و أنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها و السبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه و تفاوت الأمم في القلة و الكثرة تفاوتاً غير منحصر و تقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها و أصنافها فتكون بمنزلة الصنائع و يحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه و المهرة فيه و بقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل. صناعتها و يتلون ذلك الجيل بها و متى اتصلت الأيام و تعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم و مهروا في معرفتها و الأعصار بطولها و انفساح أمدها و تكرير أمثالها تزيدها استحكاماً و رسوخاً و أكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجار العمران و كثرة الرفه في أهلها. و ذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولة تجمع أموال الرعية و تنفقها في بطانتها و رجالها وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من أتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا و خرجها في أهل الدولة ثم في من تعلق بهم من أهل المصر و هم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم و تتزيد عوائد الترف و مذاهبه و تستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه و هذه هي الحضارة. و لهذا تجد الأمصار التي في القاصية و لو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة و تبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة و مقرها و ما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم و فيض أمواله فيهم كالماء يخضر ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد و قد قدمنا أن السلطان و الدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق و ما قرب منه و إذا أبعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة ثم أنه إذا اتصلت تلك الدولة و تعاقب ملوكها في ذلك المصر واحداً بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم و زادت رسوخاً و اعتبر ذلك في اليهود لما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف و أربعمائة سنين رسخت حضارتهم و حذقوا في أحوال المعا ش و عوائده و التفنن في صناعاته من المطاعم و الملابس و سائر أحوال المنزل حتى أنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. و رسخت الحضارة أيضاً و عوائدها في الشام منهم و من دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. و كذلك أيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان و الروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة و كذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة و التبابعة آلافاً من السنين و أعقبهم ملك مصر. و كذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط و الفرس بها من لدن الكلدانيين و الكيانية و الكسروية و العرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام و العراق و مصر. و كذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة و استحكمت بالأندلس لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط ثم ما أعقبها من ملك بني أمية آلافاً من السنين و كلتا الدولتين عظيمة فاتصلت فيها عوائد الحضارة و استحكمت. و أما أفريقية و المغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنما قطع الإفرنجة إلى أفريقية البحر و ملكوا الساحل و كانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة و أوفاز و أهل المغرب لم تجاورهم دولة و إنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر ولما جاء الله بالإسلام و ملك العرب أفريقية و المغرب لم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام و كانوا لذلك العهد في طور البداوة و من استقر منهم بإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفة إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطفري أيام هشام بن عبد الملك و لم يراجعوا أمر العرب بعد و استقلوا بأمر أنفسهم و إن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البراير هم الذين تولوها و لم يكن من العرب فيها كثير عدد و بقيت أفريقية للأغالبة و من إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك و نعيمه و كثرة عمران القيروان و ورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم و ذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة و انصرمت دولتهم و استحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة و تغلب بدو العرب الهلاليين عليها و خربوها و بقي أثر خفي من حضارة العمران فيها و إلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من الحضارة في شؤن منزله و عوائد أحواله آثاراً ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها و كذا في أكثر أمصار أفريقية و ليس كذلك في المغرب و أمصاره لرسوخ الدولة بأفريقية أكثر أمداً منذ عند الأغالبة و الشيعة وصنهاجة و أما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كبير من الحضارة و استحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم مني الاستيلاء على بلاد الأندلس و انتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً و كرهاً و كانت من اتساع النطاق ما علمت فكان فيها حظ صالح من الحضارة و استحكامها و معظمها من أهل الأندلس ثم انتقل أهل شرف الأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً و معظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر و ما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب و أفريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء و رجع إلى أعقابه و عاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة و الخشونة و على كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب و أمصاره لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب و لقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس. و اعلم أنها أمور متناسبة و هي حال الدولة في القوة و الضعف و كثرة الأمة أو الجيل و عظم المدينة أو المصر و كثرة النعمة و اليسار و ذلك أن الدولة و الملك صورة الخليفة و العمران وكلها مادة لها من الرعايا و الأمصار و سائر الأحوال و أموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم و متاجرهم و إذا أفاض السلطان عطاءه و أمواله في أهلها انبثت فيهم و رجعت إليه ثم إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية و الخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا و على يسار الرعايا و كثرتهم يكون مال الدولة و أصله كله العمران و كثرته فاعتبره و تأمله في الدول تجده و الله يحكم و لا معقب لحكمه.