Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 108 : الفصل الثالث في أن المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير
الفصل الثالث في أن المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني و غيرها و أنها تكون على نسبتها و ذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة و كثرتهم و تعاونهم فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها و جمعت أيديهم على عملها و ربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوي و القدر في حمل أثقال البناء لعجز القوة البشرية و ضعفها عن ذلك كالمخال و غيره و ربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين و مصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى و أهرام مصر و حنايا المعلقة و شرشال بالمغرب إنما كانت بقدرهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها و قدرها لتناسب بينها و بين القدر التي صدرت تلك المباني عنها و يغفل عن شأن الهندام و المخال و ما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية و كثير من المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء و استعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عياناً و أكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عاديةً نسبةً إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد و مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم و تضاعف قدرهم. و ليس كذلك، فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم و هي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى و مباني العبيديين من الشيعة بأفريقية و الصنهاجيين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد و كذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان و بناء الموحدين في رباط الفتح و رباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان و كذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة لهذا العهد و غير ذلك من المباني و الهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً و بعيداً و تيقناً أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم و إنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد و ثمود و العمالقة. و نجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد و قد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي في أكثر السنين و يشاهدونها لا تزيد في جوها و مساحتها و سمكها على المتعاهد و إنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتى أنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السمك من البحر طريئاً فيشويه في الشمس يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها و لا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض و الهواء و أما الشمس في نفسها فغير حارة و لا باردة و إنما هي كوكب مضيىء لا مزاج له و قد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة كل قوتها في أصلها. و الله يخلق ما يشاء و يحكم ما يريد.