Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 87: الفصل 38 في الجباية و سبب قلتها و كثرتها
الفصل الثامن و الثلاثون في الجباية و سبب قلتها و كثرتها إعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة و آخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة و السبب في ذلك أن الدولة إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات و الخراج و الجزية و هي قليلة الوزائع لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت و كذا زكاة الحبوب و الماشية و كذا الجزية و الخراج و جميع المغارم الشرعية و هي حدود لا تتعدى و إن كانت على سنن التغلب و العصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم و البداوة تقتضي المسامحة و المكارمة و خفض الجناح و التجافي عن أموال الناس و الغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة و الوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها و إذا قلت الوزائع و الوظائف على الرعايا نشطوا للعمل و رغبوا فيه فيكثر الاعتمار و يتزايد لحصول الاغتباط بقلة المغرم و إذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف و الوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها فإذا استمرت الدولة و اتصلت و تعاقب ملوكها واحداً بعد واحد و اتصفوا بالكيس و ذهب سر البداوة و السذاجة و خلقها من الإغضاء و التجافي و جاء الملك العضوض و الحضارة الداعية إلى الكيس و تخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق و تكثرت عوائدهم و حوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم و الترف فيكثرون الوظائف و الوزائع حينئذ على الرعايا و الأكرة و الفلاحين و سائر أهل المغارم و يزيدون في كل وظيفة و وزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية و يضعون المكوس على المبايعات و في الأبواب كما نذكر بعد ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف و كثرة الحاجات و الإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا و تهضمهم و تصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً و لم يشعر أحد بمن زادها على التعيين و لا من هو واضعها إنما ثبت على الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه و مغارمه و بين ثمرته و فائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها و ربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية و يحسبونه جبراً لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة و وزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع و لا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار و كثرة المغارم و عدم وفاء الفائدة المرجوة به فلا تزال الجملة في نقص و مقدار الوزائع و الوظائف في زيادة لما يفتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار و يعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها و إذا فهمت ذلك علمت إلى أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه و الله سبحانه و تعالى مالك الأمور كلها و بيده ملكوت كل شيء.