Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 69: الفصل 20 في أحوال الموالي و المصطنعين في الدول
الفصل العشرون في أحوال الموالي و المصطنعين في الدول إعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم و حديثهم في الالتحام بصاحبها و السبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة و المغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام و القربى و التخاذل في الأجانب و البعداء كما قدمناه و الولاية و المخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك لأن أمر النسب و إن كان طبيعياً فإنما هو وهمي و المعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة و المدافعة و طول الممارسة و الصحبة بالمربى و الرضاع و سائر أحوال الموت و الحياة و إذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة و التناصر و هذا مشاهد بين الناس و اعتبر مثله في الاصطناع فإنه يحدث بين المصطنع و من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة و تؤكد اللحمة و إن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل و بين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج و عقائدها أصح و نسبها أصرح لوجهين أحدهما أنهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فينزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم و أهل أرحامهم و إذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى. و لأهل القرابة عن أهل الولاية و الاصطناع لما تقتضيه أحوال الرئاسة و الملك من تميز الرتب و تفاوتها فتتميز حالتهم و يتنزلون منزلة الأجانب و يكون الالتحام بينهم أضعف و التناصر لذلك أبعد و ذلك انقص من الاصطناع قبل الملك.

الوجه الثاني أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان و يخفي شأن تلك اللحمة و يظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية و أما بعد الملك فيقرب العهد و يستوي في معرفته الأكثر فتتبين اللحمة و تتميز عن النسب فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة و اعتبر ذلك في الدول و الرئاسات تجده فكل من كان اصطناعه قبل حصول الرئاسة و الملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به و أقرب قرابةً إليه و يتنزل منه منزلة أبنائه و إخوانه و ذوي رحمه و من كان اصطناعه بعد حصول الملك و الرئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة و اللحمة ما للأولين و هذا مشاهد بالعيان حتى أن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى الشمال الأجانب و اصطناعهم و لا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة لقرب العهد حينئذ بأوليتهم و مشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين في مهاوي الضعة.

و إنما يحمل صاحب الدولة على اصطناعهم و العدول إليهم عن أوليائها الأقدمين و صنائعها الأولين ما يعتريهم في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة و قلة الخضوع له و نظره بما ينظره به قبيله و أهل نسبه لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى و الاتصال بآبائه و سلف قومه و الانتظام مع كبراء أهل بيته فيحصل لهم بذلك دالة عليه و اعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدولة و يعدل عنهم إلى استعمال سواهم و يكون عهد استخلاصهم و اصطناعهم قريباً فلا يبلغون رتب المجد و يبقون على حالهم من الخارجية و هكذا شأن الدول في أواخرها و أكثر ما يطلق اسم الصنائع و الأولياء على الأولين و أما هؤلاء المحدثون فخدم و أعوان والله ولي المؤمنين و هو على كل شيء وكيل.