Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 64: الفصل 15 في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة
الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة
اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصيبة و بما يتبعها من شدة البأس و تعود الافتراس و لا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه و اتساع الأحوال و الحضارة إنما هي تفنن في الترف و إحكام الصنائع المستعملة في وجوهه و مذاهبه من المطابخ و الملابس و المباني و الفرش و الأبنية و سائر عوائد المنزل و أحواله فلكل واحد منها صنائع في استجادته و التأنق فيه تختص به و يتلو بعضها بعضاً و تتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات و الملاذ والتنعم بأحوال الترف و ما تتلون به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك و أهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة و أحوالها للدولة السابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، و منهم في الغلب يأخذون، و مثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح و ملكوا فارس و الروم و استخدموا بناتهم و أبناءهم و لم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً و عثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً و مثال ذلك كثير فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم و استعملوهم في مهنهم و حاجات منازلهم و اختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك و القومة عليهم أفادوهم علاج ذلك و القيام على عمله و التفنن فيه مع ما حصل لهم من أتساع العيش و التفنن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك و تطوروا بطور الحضارة و الترف في الأحوال و استجادة المطاعم و المشارب و الملابس و المباني و الأسلحة و الفرش و آلانية و سائر الماعون و الخرثي و كذلك أحوالهم في أيام المباهاة و الولائم و ليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية و انظر ما نقلة المسعودي و الطبري و غيرهما في أعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل و ما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح و ركب إليها في السفين و ما انفق في أملاكها و ما نحلها المأمون و أنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنة أن الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون فنثر على الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثةً على الرقاع بالضياع و العقار مسوغة لمن حصلت في يده يقع لكل واحد منهم ما أداه إليه الاتفاق و البخت و فرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة آلاف و فرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك و منه أن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت و أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من و هو رطل و ثلثان و بسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر و الياقوت و قال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنه أبصر هذا حيث
: يقول في صفة الخمر
"كأن صغرى و كبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب"
و أعد بدار الطبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة و أربعين بغلاً مدة عام كامل ثلاث مرات في كل يوم و فني الحطب لليلتين و أوقدوا الجريد يصبون عليه الزيت و أوعز إلى النواتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم و كثير من هذا و أمثاله و كذلك عرس المأمون بن ذي النون بطليطلة نقلة ابن سام في كتاب الذخيرة و ابن حيان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملةً لفقدان أسبابه و القائمين على صنائعه في غضاضتهم و سذاجتهم يذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس و قال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى و قد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة أربعاً على كل واحد و تحمله أربع و صائف و يجلس عليه أربعة من الناس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها و وصفائها فقال الحجاج يا غلام انحر الجزر و أطعم الناس و علم أنه لا يستقل بهذه الأبهة و كذلك كانت. و من هذا الباب أعطية بنى أمية و جوائزهم فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم ثم كانت الجوائز في دولة بنى العباس و العبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال و تخوت الثياب و إعداد الخيل بمراكبها و هكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بأفريقية و كذا بنى طفج بمصر و شأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس و الموحدين كذلك و شأن زناتة مع الموحدين و هلم جراً تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية و بني العباس و انتقلت حضارة بنى أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين و زناتة لهذا العهد و انتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك ثم إلى السلجوقية ثم إلى الترك المماليك بمصر و التتر بالعراقين و على قدر عظم لدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف و الترف من توا بع الثروة و النعمة و الثروة و النعمة من توابع الملك و مقدار ما يستولي عليه أهل الدولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله فاعتبره و تفهمه و تأمله تجده صحيحاً في العمران و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.