Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 54 : الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم و هذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية و في الحديث الصحيح كما مر: ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه و إذا كان هذا في الأنبياء و هم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية و قد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية و صاحب كتاب خلع النعلين في التصوف ثار بالأندلس داعياً إلى الحق و سمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين و لم تكن هناك عصائب و لا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم و دخل في دعوتهم و تابعهم من معقله بحصن أركش و أمكنهم من ثغره و كان أول داعية لهم بالأندلس و كانت ثورته تسمى ثورة المرابطين و من هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة و الفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة و سلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر و النهي عنه و الأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم و المتلثلثون بهم من الغوغاء و الدهماء و يعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك و أكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم و إنما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلى الله عليه و سلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه” و أحوال الملوك و الدول راسخة قوية لا يزحزحها و يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل و العشائر كما قدمناه و هكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة و السلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر و العصائب و هم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة و الله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب و كان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك و أما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر إن تعوقه العوائق و تنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه و إعانته و الإخلاص له و النصيحة للمسلمين و لا يشك في ذلك مسلم و لا يرتاب فيه ذو بصيرة و أول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين و قعت فتنة طاهر و قتل الأمين و أبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق ثم عهد لعلي بن موسى الرضى من آل الحسين فكشف بنو العباس عن وجه النكير عليه و تداعوا للقيام و خلع طاعة المأمون و الاستبدال منه و بويع إبراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغداد و انطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار و الحربية على أهل العافية و الصون و قطعوا السبيل و امتلأت أيديهم من نهاب الناس و باعوها علانية في الأسواق و استعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدين و الصلاح على منع الفساق و كف عاديتهم و قام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فأجابه خلق و قاتل أهل الزعارة فغلبهم و أطلق يده فيهم بالضرب و التنكيل ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري و يكنى أبا حاتم و علق مصحفاً في عنقه و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و العمل بكتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم فاتبعه الناس كافةً من بين شريف و وضيع من بنى هاشم فمن دونهم و نزل قصر طاهر و أتخذ الديوان و طاف ببغداد و منع كل من أخاف المارة و منع الخفارة لأولئك الشطار و قال له خالد الدريوس أنا لا أعيب على السلطان فقال له سهل لكني أقاتل كل من خالف الكتاب و السنة كائناً من كان و ذلك سنة إحدى و مائتين و جهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه و أسره و انحل أمره سريعاً و ذهب و نجا بنفسه ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق و لا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية و لا يشعرون بمغبة أمرهم و مآل أحوالهم و الذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون و إما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً و إما إذاعة السخرية منهم و عدهم من جملة الصفاعين و قد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له و ليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي و لا ما هو و أكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسةً امتلأت بها جوانحهم و عجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك و لا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة و تسوء عاقبة مكرهم و قد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك و زعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك و أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش ثم خشي رؤساؤهم أتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه و كذلك خرج في غماره أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس و ادعى مثل هذه الدعوة و اتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل و أغمارهم و زحف إلى بادس من أمصارهم و دخلها عنوة. ثم قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته و مضى في الهالكين الأولين و أمثال ذلك كثير و الغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها و أما إن كان التلبيس فأحرى أن لا يتم له أمر و أن يبوء بإثمه و ذلك جزاء الظالمين و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب غيره و لا معبود سواه.